قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, September 26, 2017

قصص لا تكتمل - 3


رسوم الفنان طارق عزام

قال له الطبيب النفسي:
«بعض أدوية الاكتئاب تجعلك تتصرف بشكل غير واع.. تمشي ليلاً أو تفعل أشياء لا تدرك أنك فعلتها»

كان مصطفى يشك في بعض هذه الأدوية النفسية التي يتعاطاها لمرضه ثنائي القطبية، لكنه لم يتصور أن يصل الغياب عن الوعي لدرجة أن يمحو قصة كتبها، أو يتخلص تمامًا من أوراق طبعها..

قال مصطفى:
«سوف أتوقف عن أدوية الاكتئاب إذن.. فهذه الحالة تقلقني»

قال الطبيب ضاحكًا وهو يدير جهاز الواي فاي لتنبعث موسيقا ناعمة:
«النفس البشرية لغز… أعتقد أنك لا شعوريًا كنت تحمل كراهية لهذا الذي كتبته.. ثم تدخل اللاشعور ليجعلك تتخلص منه»

«سأحاول أن أعتقد ذلك»

ونهض مصطفى متثاقلاً.. لن يخبر زوجته في البيت أنه عاد لزيارة الطبيب النفسي، هي التي تؤمن أن هذا لا يعالج الجنون بل يصيب المرء السليم به .

****************

عندما جاء المساء قرر مصطفى أن يكتب قصة جديدة مستغلاً الصمت والهدوء، وقرر أن يحافظ على الورق وعلى الملف جيدًا.. يجب أن يتأكد من أنه لم يمح الملف أو يحرق الورق..

ضم أنامله ثم طرقعها بعنف كأنه يتأهب لعمل مهم.. ثم أخذ نفسًا عميقًا من السيجارة وشفطة من قدح النسكافيه، ثم كتب بأنامل واثقة:

الغرفـــــــــة 


الغرفة القديمة في بيت الأسرة، هي مخزن للكرار والمهملات والجرائد القديمة. مع حشد كبير من الثياب البالية نصف الممزقة. هناك شماعة تتدلى منها بعض الثياب، وهناك مرآة مهشمة.. وهناك قفص عصافير خال.. وهناك سمكة قرش محنطة خالية من اللحم لكنها تفتح شدقيها منذرة. هناك ساعة حائط محطمة وقد وثب منها زنبرك.. هناك ملصق على الجدار يصور فاطمة رشدي حسناء الماضي التي كانوا يسمونها صديقة الطلبة. هناك الكثير من الغبار وأكوام من نسيج العناكب والعث.. هناك بورص أو اثنان على السقف.

كان عاصم يكره البورص ويشعر أنه كائن مقزز، لكنه لم يكن كذلك يجرؤ على قتله.. ستكون عملية مثيرة للاشمئزاز بالتأكيد.

الجو حار في الغرفة، وبالطبع خانق تضيق به النفس. العرق يسيل على جبينه ممزوجًا بالغبار. يبدو أنه سيحتاج إلى حمام قبل أن يغادر الشقة الخالية.

يجب أن يجد الملف.. الملف الذي يحوي عقود شراء الأرض وصحة التوقيع. الأوراق التي فشل في أن يجدها في البيت كله. البيت الخالي على عروشه منذ وفاة الأب. منذ عام مات الأب وقبله بعشرة أعوام ماتت الأم.. ولم يكن أي من الأبناء يعيش هنا. كانوا قد تركوا الأب يعيش وحده لأن أحدًا لا يطيقه. الشيخ الكريه المتشكك الغاضب على الدوام، مع الشيخوخة التي جعلته ينسى النظافة الشخصية، لدرجة أنه كان يقضي حاجته في أي مكان. لم يكن أي من الأبناء يرغب في أن يستضيف هذه الكارثة، هكذا تركوا الأب وحده مع خادمة تدبر أموره صباحًا وترحل مساءً. منذ توفي الأب ظهرت مشكلة العثور على أوراقه.. لم يكتب وصية، لكن ما هي ثروته الحقيقية؟ ماذا يملكه بالضبط؟

تطوع عاصم بأن يفتش البيت جيدًا بحثًا عن الأوراق..

لقد جمع بعض أوراق مهمة، لكنه لم يجد بعد ضالته.. وعندما دخل هذه الغرفة القذرة تذكر أنه لم يدخلها منذ تزوج وفارق البيت… نحو عشر سنوات…

خرج من الغرفة واتجه إلى الحمام ليغسل وجهه.. فتح المحبس المغلق منذ عام.. وشعر بالماء المنعش يغمر وجهه..

عاد إلى الغرفة الكئيبة وراح يحاول جاهدًا فتح النافذة.. لكن مقبضها كان متصلبًا من الزمن.. لا جدوى. لا سبيل لدخول الهواء والنور هنا..

استطاع بعد جهد أن يزيح كومة من الخرق البالية فوجد تحتها صندوقًا خشبيًا عتيقًا يبلغ طوله مترًا وعرضه نصف متر تقريبًا. الغطاء مثبت جيدًا.. بحث حوله حتى وجد مطرقة نجار من الطراز الذي يحمل جزءًا مشقوقًا كذيل الصرصور، يستخدم في انتزاع المسامير. أولج هذا الجزء في غطاء الصندوق وراح يحاول جاهدًا أن يفتح..

هيا… اضغط أكثر..

الدرس الذي يجب أن نتعلمه هو ألا نفتح صناديق لم نغلقها نحن. لقد انفتح الغطاء بصعوبة.. وعلى الضوء الخافت المنبعث من مصباح السقف، وجد أن الصندوق يضم أشياء غريبة.. كانت هناك عظام.. عظام آدمية لا شك فيها..

عظام نظيفة مضى عليها زمن بعيد..

لم يكن للأسرة أي علاقة بدراسة الطب. لم يكن لها أصدقاء أطباء.. لا يوجد تفسير لوجود هذه العظام…

كان عاصم يلهث في انفعال.. الأمر مريب بحق.. هل قتل الأب شخصًا وأخفى عظامه هنا؟ أم لعلها الخادمة هي التي أخفت شخصًا هنا حتى تحلل.. كانت برفقة شيخ فان لا يميز شيئًا…

في هذه اللحظة انغلق باب الغرفة، ووجد عاصم نفسه محبوسًا في الضوء الخافت!



عند هذا الحد شعر مصطفى بثقل في أفكاره وأهدابه وأنامله..

يجب أن يتوقف هنا. وكان مدمنًا للقهوة والنسكافيه، لذا لم تكن هذه المشروبات قادرة على أن تسلبه النوم..

تثاءب.. لكنه نهض إلى الطابعة فشغلها.. سرعان ما خرجت له القصة على شكل أوراق. ثم أنه نسخ الملف على ذاكرة (فلاش). نهض متثاقلاً ففتح المكتب ووضع فيه الأوراق والذاكرة، ثم أغلق الدرج بالمفتاح.. واتجه إلى المكتبة العالية فوضع المفتاح فوقها بصعوبة..

لا يستطيع شخص يمشي أثناء النوم أن يصل لهذا المفتاح دون معاناة، والمعاناة ستجعله يصحو من النوم..

ثم أنه اتجه إلى الفراش.. وسره أن زوجته تشعر بأرق وتتقلب كثيرًا. مصائب قوم عند قوم فوائد.. هكذا ستعرف إن كان قد صحا من النوم ليمسح قصته…

غير أن الذعر استبد به في الصباح…

أنت تعرف بالطبع أنه لم يجد القصة.. لا النسخة الورقية ولا الذاكرة..

كان المفتاح في موضعه حيث تركه فوق المكتبة… لا توجد أي علامة على اقتحام الدرج.

راح يرتجف رعبًا.. هذه المرة قد صار الموقف يفوق قدرته على التعقل..

«مسكون!.. هذا البيت مسكون!»

قالها لنفسه لكنه لم يجسر على أن يخبر زوجته بقصته.. لقد كتب بدايات ثلاث قصص، وفي كل مرة تختفي القصة من الوجود كأنها لم تكن…

أنا لست مجنونًا.. البيت مسكون..

يُتبع