قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, June 20, 2017

نقوش - 1


رسوم الفنان طارق عزام

قال البروفسور ماساتو ساكاي بإنجليزيته التي هي أقرب لليابانية:
- «نحن نقترب من الحل.. المشكلة ليست بهذا التعقيد».

لم يعلق واحد من الفريق. فالمشكلة كانت فعلاً بهذا التعقيد، بل أكثر بمراحل.

***************

الدوامة التي دخلها عماد كانت أكبر من قدرته على الفهم.. أكبر من تحمل جهازه العصبي… أكبر من قدرات جهازه التنفسي. لم يتساءل من قبل عن شعور مسمار المثقاب وهو يخترق الخشب، لكنه يدركه الآن. رأى ذات مرة فيلمًا عن ظروف تدريب رواد الفضاء على تحمل الطرد المركزي، ورأى كيف يغيبون عن الوعي ويتدلى لحم وجوههم ويسيل لعابهم. تذكر هذا الفيلم في تلك اللحظات. ترى هل لعابي يسيل؟.

قال لنفسه:
- «أنا أموت.. إن هي إلا لحظات وتمر بسرعة، ثم أفيق في الجانب الآخر».

لكن المشكلة هي أن اللحظات لا تنتهي. يبدو كأن الأمر أبدي بلا نهاية.

ثم جاء الظلام الرائع.. الظلام المحبب.. فقدان الوعي الرحيم. لابد أنها أسعد لحظة يعيشها من تلتهمه النيران أو هو بين أنياب أسد.

ثم بدأ يرى ضوءًا في نهاية النفق.. هل هذا نفق؟.

ذكريات ضبابية عن انطلاقه بالطائرة.. القاعدة الجوية المصرية في ظلام الليل والإشارات.. الفضاء.. والأرض تتحول لصفحة سوداء كبيرة..

ماذا حدث بالضبط؟ عاصفة رعدية.. غمامة سوداء ينبعث منها الشرر كأنها وحش إغريقي غاضب.

برج المراقبة قال له إن هناك عاصفة رعدية تقترب، وصدر له الأمر بالعودة.. لكن الكلام سهل. لقد دار دورة سريعة في الفضاء ثم هبط بشكل عمودي، وهو ينوي أن يعود أدراجه إلى القاعدة الجوية، لكن لسان برق عملاقًا خرج من مركز الغمامة ولطم الطائرة.

بعدها بدأ الكابوس. كان ينجذب إلى داخل العاصفة، وداهمه شعور عارم بأن هذا لسان وحش يلتقمه كذبابة. حرباء كونية ظفرت به ولن يستطيع الخلاص من صمغها اللاصق.

صرخ في مكبر الصوت:
- «الله أكبر!… إنني أموت!!».

الأمر سهل ولا يحتاج لتفكير طويل.. سوف يدخل الدوامة فتتحطم الطائرة أو تصعقه الكهرباء، أو تتعطل الطائرة فتهوي إلى الأرض من ارتفاع خمسة كيلومترات… في كل الأحوال هو الموت ولا شيء سواه..

على التابلوه رأى الصورة الصغيرة لمها مع أشرف…

هما الآن نائمان على الأرجح، يحلمان أحلامًا سعيدة، ولا يعرفان أن العمل جارٍ على قدم وساق لتحويلهما إلى أرملة وطفل يتيم.. هذا بالطبع لو لم تكن القدرات الخارقة شيئًا حقيقيًا، فتكون مها ترى هذه المشاهد معه الآن وتتقلب في الفراش غارقة في العرق..

لسان برق آخر يضرب الطائرة..

ثم دخل الدوامة المخيفة..

***************

الحياة في (زور) لم تكن كئيبة.

في كل يوم هناك شيء جديد تتعلمه أو تعرفه. هناك (ألتيما) العظيم الذي يعرف كل شيء تقريبًا ويمكنك أن تتصل به بسهولة في أي لحظة عن طريق الشاشات الزئبقية الموجودة في كل مكان. فقط أنت تنظر للشاشة طويلاً وتقول:
- «أزل الظلام يا زور».

فتزول الغيوم على الشاشة ويظهر بوجهه المميز الأخضر، ويجيب عن أسئلتك..

لم يستطع عماد قط أن يعرف هل (ألتيما) صورة رقمية يصنعها الكمبيوتر أم هو رجل غريب الشكل فعلاً. لكن من العسير في هذا العالم أن تتحدث عن الكمبيوتر أصلاً. لا يوجد شيء اسمه الكمبيوتر.. كل ما تعلمه هو أن المادة ذكية حية وتجيب عن أسئلتك فورًا.

هكذا كان يقضي الساعات أمام الشاشات يعرف منها كل شيء.

لم يكن (زور) شبيهًا بالعوالم التي تجوب في ذهنك.. إنه أقرب إلى بطانة رحم عضوية دافئة تنبض وتسيل.. وأنت تمشي بين ردهات تذكرك بقنوات فالوب كما كنت تراها في صور المنظار الرحمي في كتب الطب الخاصة بأخيك..

المواطنون هناك كانوا يبدون كالبشر، وإن كانوا أكثر نحولاً وحزنًا. فيهم شفافية بلورية غريبة.. لكن أسماءهم صعبة جدًا. لا يمكنك أن تعيش مع شخص اسمه (بببببتنمكارروسان)، وهم لا يستعملون طريقة التدليل أو التبسيط…

كان هناك في بيت (كيفياليبانماياسوش). كان يرقد في فراشها وينظر للسقف الذي ينبض والذي تتدفق فيه شرايين حية….. جدران ذات شرايين!. وكانت (كيفياليبانماياسوش) جميلة جدًا طويلة الأطراف لها أصابع يدين ملتصقة تزيدها جمالاً – لا أدري كيف – ربما لأنها تذكره بتلك الفتاة الجميلة التي كان الفنان بيكار يرسمها دومًا.

لم تكن تتكلم لكنه يسمع أفكارها بوضوح تام:
- «أنت في (زور)».

حاول أن يتكلم لكن الصوت لم يخرج. فقط خرجت أفكاره:
- «أين يوجد (زور)؟».

- «زور هو الكل الذي نحن فيه.. أنت دخلت دوامة زمنية ومكانية وفيزيائية، واليوم صرت منا».

لم يستطع الفهم.. لكنها في ذلك اليوم اقتادته عبر الممرات، وهناك كانت فتحة تنبض وتخفق كأنها صمام في قلب، وعبر الفتحة استطاع ان يرى العالم الخارجي..

العالم الخارجي كان أرضًا زرقاء تمتد إلى ما لا نهاية، وسماء حمراء بلون الدم… واستطاع أن يرى ديناصورات عملاقة تمشي في الخارج.. أرجل هائلة مكسوة بشعيرات دقيقة.. عندما رفع عينه أكثر أدرك أن هذه ليست ديناصورات تلك التي تمشي حولهم.. إنها صراصير عملاقة!

ما أفزعه أكثر هو أن (كيفياليبانماياسوش) خرجت من الفوهة النابضة وراحت تمشي بين تلك الأرجل بلا وجل… وأدرك أن هناك نملة عملاقة تدنو منه..

في أفكاره صرخ:
- «نحن أقزام!.. الحشرات أكبر منا بمراحل.. نحن في حجم البكتريا!».

جاءت أفكارها الهادئة:
- «لا توجد حقائق.. نحن في عالم نصير فيه أقزامًا.. غدًا نكون في عالم نصير فيه عمالقة. (زور) عالمنا يرتحل بين الأكوان والمسافات».

- «هل نحن في المستقبل؟».

- «لا يوجد ماض ولا مستقبل بالنسبة لنا. لا توجد نقطة ثابتة.. غدًا نكون في ماضي عالم.. وبعد غد نكون في مستقبل عالم آخر».

(زور) متغير.. (زور) يرتحل عبر الأبعاد والعوالم. (زور) اليوم في مجرة وغدًا يكون في مجرة أخرى…

كان عليه أن يفهم هذه الحقائق، برغم أنه يعرف جيدًا حقيقته: هو طيار مصري دخلت مقاتلته في دوامة كهربية، وهذه الدوامة نقلته لعالم آخر له قواعد مختلفة. كيف يعود لعالمه الأصلي؟ لا يعرف..

قالت أفكارها له:
- «يومًا ما ستجد العالم الذي جئت منه.. لربما وجدت نفس الزمن كذلك. عندها يمكنك أن تتركنا. أما اليوم فأنت لن تستطيع الحياة وحيدًا في عالم تحكمه البراغيث أو تحكمه البكتريا..».

هكذا بدأ عماد يعتاد الحياة في هذا الحلم. لم يكن حلمًا كريهًا على كل حال. هناك الكثير مما تكتشفه وهناك الكثير مما تتعلمه، وفوق هذا كله هناك السلام.

ولا يعرف كيف ولا متى وجد أنه قد تزوج (كيفياليبانماياسوش). لقد تسلل الحب للقلبين برغم اختلاف العالمين.

قالت لألتيما العظيم:
- «امنحه لي. فأنا أريده زوجًا. أحب أن أعلمه أشياء».

جاء الجميع يحيونه ويقدمون له الشيناتا.. الشيناتا هي هدية العروسين هنا، وشرحها معقد بعض الشيء. وخلال أسبوعين من زمننا تكور بطنها وصارت حاملاً، ثم أنجبت طفلاً جميلاً يشبهها جدًا. اتفقا على أن تسميه (جراموسانتافونمك).. هو فضل أن يسميه (أشرف) حتى يشعر بألفة. لربما يرى ابنه مرة أخرى يومًا ما….

كان لديه الكثير ليعرفه، لكنه كذلك أدرك مع الوقت أن لديه ما يقدمه لهم.

يُتبع