قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, March 18, 2017

صنايعي من مصر



يمر المرء حاليا بحالة قرف ويأس شديدين مما تردى له العقل المصري والذوق المصري، وما تردى له الاقتصاد والتعليم، حتى لتشعر في النهاية بأنك في فترة سوداء من فترات التاريخ التي لا نعرف عن تفاصيلها إلا أنها (زفت). شيء أقرب للشدة المستنصرية مثلا. وقد راجعت مجموعة كبيرة من مقالاتي لمدة عامين تقريبًا فوجدتها تتلخص في جملة واحدة: "الأمور سيئة جدا وسوف تسوء أكثر". في الفترة الأخيرة رأيت تمثال رمسيس الذي كسروه أثناء استخراجه وبالوا عليه، ثم رأيت هذين التمثالين العبقريين اللذين هما امتداد لتيار العك واللغوصة في الفن المصري الذي وصفته في مقال سابق تجده هنا. لاحظ أن الأسد محاولة جادة لاستنساخ أسدي قصر النيل، أما الملك الفرعوني فليس تمثال الملك حسن حسني، كما أشاع البعض.. هنا تشعر بالقنوط وبأن المصري الذي كنت تعرفه هو كائن منقرض.  


في وقت كهذا تقابل كتابًا ينقذ حياتك بالفعل؛ هو كتاب (صنايعية مصر) لعمر طاهر. إنه من نوعية الكتب التي تؤكل ولا تُقرأ، وقد التهمته في بضع ساعات. لكن الموضوع ذا الشجون هنا هو أنه أقرب لنصب تذكاري لأولئك الذين صنعوا مصر ومنحوها المذاق الذي نعرفه اليوم، في أغنية حنين طويلة تستغرق 310 صفحات مع مجموعة صور نادرة. إنها لفظة (الصنايعي) بكل ما تعنيه من حرفنة وبراعة وأصالة.. هذا الصنايعي البارع صنع مصر نفسها.

عندما تقرأ هذا الكتاب تكتشف أن مصر ولّادة فعلاً، وهي تمرض كثيرًا وتمرض بأمراض خطيرة فعلاً، لكنها لا تموت. عمر طاهر نفسه من صنايعية مصر الذين يتكلم عنهم، ولا شك أن كتاباته شكلت طريقة تفكير جيل كامل، ومصر تجري في دمه فعلا أكثر من هؤلاء الذين يلوحون بالعلم ويضعون قبعات بيادة الجيش إياها على رؤوسهم. كما أن لهذا الكتاب مذاقًا حريفًا متفردًا لا أجد ما أقارنه به سوى (ألحان السماء) لمحمود السعدني مثلا.

يحكي لنا طاهر في البداية: إن هذا الكتاب تجميعة مقالات نُشرت بين جريدتي «التحرير» و«الأهرام»، ويقول إن القائمة الأصلية كانت تتضمن ستين اسمًا، لكنه اضطر إلى تقليل العدد لأنه ما من معلومات كافية عن البعض، والبعض لم يكن دورهم رائدًا برغم أهميته. لسبب كهذا نجد في الكتاب عنصر التجانس كأنما تم تأليفه خصيصًا، وهو عنصر تفتقر إليه كل الكتب القائمة على تجميع مقالات. سوف تجد نفس المزية في كتاب (إذاعة الأغاني) كذلك. 


كنت طيلة حياتي أتساءل عن معنى كورونا أو ما هو الشبراويشي؟.. إلخ.. وقد فوجئت هنا بمعلومات مذهلة عن الشبراويشي لا شك أنها اقتضت جهدًا مضنيًا من الكاتب. رائحة الـ555 أو الشبراويشي الليمونية التي تحمل احتفالات وأفراح وأمراض وترموترات المصريين، وسوف تشمها في خِدر عروس جديدة، أو في كفن ميت تم غسله. هنا سوف تعرف قصة الشبراويشي كاملة. 


سوف تقابل تومي خريستو صاحب مصانع كورونا وتعرف قصة الغزالة المرسومة على العبوة. أنا من جيل تعلم أن يتواثب قلبه كلما رأى الغزالة إياها. ولسوف تعرف قصة تعاونه مع رجل الأعمال نادلر الذي نعرفه مرتبطًا بالأرواح والنعناع. أنت تعرف أن ابنة نادلر هي زوجة بطرس غالي. ولسبب لم أفهمه يدمج عمر طاهر في نفس الفصل قصة علوي الجزار وشاي الشيخ الشريب. هناك معلومات تعرفها لأول مرة، مثل أن الشيخ الشريب الذي ترى صورته على عبوة الشاي هو عم عرفة الذي كان يعمل سائقًا لدى علوي.   



ثمة نغمة تتكرر في كل الكتاب هي أن التأميم جاء كقاطرة مجنونة دمرت الصناعة المصرية والرأسمالية الوطنية، وجعلت هؤلاء المكافحين الذين كونوا ثروتهم بالعمل الشاق مفلسين بين ليلة وضحاها. وعلى الأرجح هرب كل منهم إلى الخارج يجر ذيول إحباطه. من القصص العجيبة أن علوي حافظ صاحب شاي الشيخ الشريب كان يدخن سيجارًا فاخرًا، وظهرت صورته في التليفزيون، فسأل عبد الناصر عن اسم الرجل: "وده أممناه ولّا لسه؟" فلما قيل له أنْ لا، جاء قرار التأميم. الصورة في الحقيقة تختلف كثيرًا عن صورة الرأسمالي المتوحش ذي الكرش، الذي يحمل سوطًا ويضرب به العمال والفلاحين، حتى جاء أبطال يوليو بثيابهم العسكرية ونبلهم ليأخذوا منه ما سلبه من الشعب ويطردوه. لم تكن الأمور بهذه البساطة، ولا شك أن على المرء أن يراجع مسلمات كثيرة نشأ عليها.

سوف تعرف قصة ناعوم شبيب المهندس العبقري لبرج القاهرة، وقصة تحرش خمسة لصوص في تشيلي بأندريه رايدار المؤلف الموسيقي اليوناني العظيم، حيث سرقوه وضربوه.. والنتيجة هي انفجار شريان تاجي بعد أيام. أندريا رايدار قدم الكثير من الأعمال الرائعة لدرجة أن عبد الناصر منحه الجنسية المصرية عام 1970.

تنتقل إلى تجربة محافظ نادر هو وجيه أباظة، وهو في رأيي أنشط محافظ عرفته مصر. وقد كان يؤمن بأن المحافظ يصير أنجح كلما اقترب مكتبه من صورة مصطبة العمدة. وفيما بعد اعتبره السادات من مراكز القوى، لأنه ساعد أحد أعداء السادات بمبلغ 150 جنيهًا كان هو مهر ابنته. لم يذكر عمر طاهر شيئًا عن كون أباظة من محافظي الغربية، ولعله لم يعرف ذلك.

لم أسمع قط عن صدقي سليمان مهندس السد العالي وأول وآخر وزير لوزارة السد العالي، والذي -لأنه من رموز العهد الناصري- عومل بتجاهل تام في عصر السادات، وهو بطبعه كان ينفر من الأضواء، وإن شارك بخبراته في عملية تذويب الساتر الترابي في خط بارليف.

صنايعي آخر استطاع أن يفتح لمصر أبواب السينما العالمية، وهو الذي كنا نقرأ اسمه في تترات الأفلام فنتساءل عمن هو هذا الكائن الأسطوري (أنيس عبيد). المهندس المصري الذي بلغ من نجاحه أن الهند والصين كانتا ترسلان له نسخ الأفلام ليطبع عليها ترجمته الإنجليزية. بالإضافة لهذا كان مخترعًا أضاف الكثير لصناعة السينما.  


الرحلة مع الصنايعية لا تتوقف.. من هي أبلة نظيرة صاحبة الكتاب الذي لم تكن فتاة تتزوج دون أن تقتنيه؟ من هو صيدناوي؟ سمعان صيدناوي السوري الذي جاء لمصر وبدأ يعمل في الخردوات. ثم تضخمت تجارته واقتنى محلا كبيرا، مما أغرى آخرين على تكرار التجربة؛ مثل شيكوريل وعدس. ومن محلات صيدناوي كان معظم المصريين يبتاعون ثيابهم ويفرشون بيوتهم.

صنايعي آخر مثل فطين عبد الوهاب العبقري. ماما لبنى صنايعية مجلات "ميكي وسمير"، التي تركت بصمة لدى كل طفل في مصر. وماذا عن صفية المهندس التي يطلق عليها اسم (سيدة التاسعة والربع)؟ أول امرأة ترأس الإذاعة المصرية. خاطبت كل نساء مصر في برنامج (إلى ربات البيوت). ومن عبارات محمد عبد الوهاب الذكية: "مدام صفية.. ممكن أعرف مين بيلحن لك كلامك؟".

هكذا ينتقل هذا الكتاب الفريد من "كلوت بك: مؤسس الطب" إلى النقشبندي الرائع الذي يحمل كل مصري ذرة من صوته في خلاياه، فالضيف أحمد ثالث ثلاثي أضواء المسرح النحيل الذي يضحكك بكآبته.

تقريبًا سوف تقابل 32 اسمًا في هذا الكتاب.. قد تختلف حول جدارة بعض الأسماء بأن توجد هنا، لكنك بالتأكيد سوف تجد كمًّا هائلا من المعلومات التي لم تكن تعرفها، ولسوف تنتظر بالتأكيد الجزء الثاني الذي أعلن عنه الكاتب.

بصرف النظر عن إمتاع الكتاب فإنك تكتشف ما كنت نسيته من قبل، وهو أن مصر معنى كبير جدا وعظيم جدا، وأن جهود كل هؤلاء العظماء لا يمكن أن تضيع هباء. نحن نمر بفترة سوداء حتمًا لكنها مجرد فترة عابرة في تاريخ بلد استحق الخلود. تلكم حقيقة غابت عني، وساعدني هذا الكتاب على تذكرها، فشكرًا لك كالعادة يا عمر طاهر. الصنايعي الذي لم يذكره الكتاب.