قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, January 11, 2017

ما زال يصلح


mobilspionage.de

لا شك في أن تدهور الإعلام يحدث بسرعة فائقة، وقد خطر لي أمس أننا صرنا بالفعل نفتقد توفيق عكاشة، فهو – بالمقارنة بوجوه حالية – كان مسليًا قادرًا على جعلك تبتسم، وتشعر معه أنك جالس على المصطبة تثرثر وتشرب الشاي. من المحزن أن توفيق عكاشة صار يمثل (الماضي الجميل) الذي فقدناه.

رأينا برنامجًا يقدم تسجيلات خاصة للبرادعي مع عدد من الأشخاص؛ منهم رئيس الأركان حتى عام 2012. كيف يسجل طرف مكالمات رئيس الأركان شخصيًا؟ وكيف يذيعها في برنامج عام لمجرد شن حرب سياسية على البرادعي؟ ومن الذي يهين جيش مصر إذن؟ وعلى كل حال واضح أن عيد تشويه البرادعي إعلاميًا قد جاء في موسمه السنوي.. كل عام وأنت بخير.. عادت للظهور الشهادة التي أعطاها له الموساد لتثبت أنه عميل، والتي تبدأ بالبسملة، وهي دعابة واضحة صنعها أحدهم لكن تداولها كثيرون على أنها حقيقة. لا أعرف رأيك في البرادعي، ولو كنت ممن يقرءون لي، فأنت تعرف أنني كتبت أكثر من مرة أنني أعتبره مفكرًا نبيلاً سابقًا لعصره. لكن هذا ليس موضوعنا على كل حال، فهذا جدل يمكن أن يستمر للأبد، لكني بالتأكيد أرفض إذاعة تسجيلات خاصة حتى لو كانت لأبي لهب نفسه.

استمعت إلى التسجيلات فلم أجد فيها أي شيء يجعلها (فضيحة)، بل هي بالعكس في صالح البرادعي.. هؤلاء القوم يعتبرون أي مكالمة مسجلة دون علم صاحبها (فضيحة تكشف الحقائق). خيالهم المريض يصور لهم أنهم وجدوا شيئا خطيرًا يدين من يسجلون له. ولو قال له مساء الخير لقالوا إن هذا دليل على أنه يتعاطى البانجو!

لهذا – أرجو قبول اعتذاري – وجدت أنني لن أقول أكثر مما قلته في مقال قديم لي عن تسريبات مماثلة. أرجو أن تفسح لي صدرك كي أجتزئ فقرات منه:

في قصة (صانع الأمطار) لجون جريشام، ينجح المحامي الشاب في أن يسجل مكالمات سرية لخصمه.. مكالمات خطرة جدًا لو وصلت إلى المحكمة، لكن البطل الشاب يعرف قبل أي واحد آخر أن هذه التسجيلات تمت بدون إذن المدعي العام، وتمت دون علم من يتم التسجيل له. هذه إذن أشياء لا قيمة لها قانونًا بل وتدينه هو بالذات. لهذا يبتلع هذه التسجيلات ولا يعرضها على أحد.

سبب فضيحة ووترجيت هو أن نيكسون الرئيس الأمريكي كان يقوم بالتنصت على الحزب الديمقراطي لمعرفة خططهم الانتخابية. كانت النتيجة هي غضبة عارمة في أمريكا واستقالة الرئيس... لو كان هذا في مصر لخرج أكثر من إعلامي يقول إن الحزب الديمقراطي مجموعة عملاء يتآمرون، والتنصت عليهم حلال. لكن الأمريكان لا يغفرون شيئًا كهذا أبدًا...

فإذا قبلنا جريمة التنصت على أفراد دون علمهم ودون إذن من جهات التحقيق، فماذا عن إذاعة هذه التسجيلات على الفضائيات فيما يشبه حملة التشهير الكاملة؟

أنت تعرف القصة طبعًا: كاتب صحفي شهير – يقولون إنه محلل سياسي كذلك – قرر لعب دور المناضل الذي يدخل مواطن الخطر، أو دور بوب ودوادرد مثلاً، وراح يذيع هذه التسجيلات العجيبة لحركة 6 إبريل. وهو يردد عبارات تدل على شجاعته و(هي موتة والا اتنين؟)  و(ماض حتى النفس الأخير) و(لو كانوا خمسة فأنا منهم، ولو كانوا واحدًا فأنا ذلك الواحد).. إلخ.. دون أن يفسر لنا كيف حصل على هذه التسجيلات؟.. وبأي حق قانوني يذيعها؟

الناس ترحب بهذا وتكتشف أن حركة 6 إبريل عملاء وقد فضحهم هذا الصحفي الشجاع، دون أن يدقق شخص واحد في محتويات الشرائط.. معظم هذه الشرائط حوارات عادية فعلاً، لكن الناس تفترض أن أي تسجيل يتم دون علم الشخص هو فضيحة!.. وماذا لو سجلت مكالمات هذا المذيع؟ ماذا يمكن أن تجد في مكالماته من أشياء مروعة؟

هناك نقطة مهمة هي أن من يتنصت على مكالماتك يمكن أن يجد في كل كلمة شيئًا مريبًا إذا أراد. أذكر قضية دعارة لفقت لفنانتين شهيرتين أيام مبارك، فقال الكاتب الصحفي عادل حمودة ما معناه: "تلك الطريقة القديمة عندما تقول فنانة لصديقتها في الهاتف: أنا حأحط بنزين في العربية.. فيفترض المتذاكون أن هذا معناه أنها ذاهبة لممارسة الدعارة مع ثري خليجي!!".

أما عن التلفيق وفبركة الحوار ففن يمارس في مصر منذ زمن سحيق. أذكر أيام السادات أنهم أذعوا تسجيلاً لفؤاد سراج الدين – رحمه الله – يكلم فيه أحد أنصاره قائلاً: "عاوزين نتاجر بقوت الشعب!!". السؤال هنا هو هل يمكن أن يقول الرجل شيئًا بهذه الفجاجة؟.. هل يتحدث أقوى وزير داخلية في تاريخ مصر في الهاتف بهذه السذاجة؟

مثلاً خذ عندك هذه الفضيحة: مكالمة تمت بين الناشطة السياسية أسماء محفوظ، وشخص يدعى خالد، بكت خلالها متسائلة: من النظيف في هذا البلد؟. قال المذيع في غضب إن الدولة مازال بها وطنيون شرفاء وهم الذين يحبون هذه الدولة. طيب يا سيدي.. أنت وطني شريف لكن هل ما قالته الفتاة فضيحة؟

هذه التسجيلات نوع من العقاب بأثر رجعي لكل من شارك في ثورة يناير.. السؤال هنا: هل تم إثبات أي شيء حقيقي ضد هذه الحركة على مدى ثلاثة أعوام؟.. لماذا لم يُسجن رجالها ويعدموا ما داموا خونة لهذا الحد؟.. المسجونون حاليًا منهم سجنوا بتهمة التظاهر فقط، وقبل هذا سجن أحمد دومة بتهمة إهانة الرئيس!. فهل النيابة أقل براعة من السيد المذيع العبقري؟

لنقل إن هؤلاء الفتية عملاء وشياطين جاءت من سقر، لكن القانون يظل قانونًا. ليس من حق أحد انتهاك خصوصيتهم على الفضائيات. الغريب أن الناس رحبت بهذا وأدانتهم قبل أن تعرف أي شيء.. وكتب أحدهم: "لا حقوق لمن لا يقدم الواجبات".  أي واجبات؟.. كنت أنت نائمًا في بيتك بينما هم يختنقون بالغاز في التحرير، لكن الإعلام غسل مخك حتى صرت تعتبر أي محاولة لتغيير الواقع أو إفاقتك من الغيبوبة خيانة.. كنت سعيدًا في بحر العسل فالويل لمن جعلك تفيق. كتب صديقي الشاب محمد فتحي مقالاً متوازنًا جميلاً يدعو للتعقل فيه، فقالت له إحدى المعلقات المسعورات اللاتي صرن بعدد شعر الرأس هذه الأيام: "خلي بالك من مكالماتك انت كمان!". أي أن هذه صارت سياسة مقبولة ومعترفًا بها.