قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, October 25, 2016

الجلسة - 2


رسوم الفنان طارق عزام

في الفندق جلست أصغي لبعض الموسيقى، ورحت أنظر لعقارب الساعة في لهفة. بالطبع أجريت مكالمة هاتفية للبيت وأبلغت ثريا أنني سأتأخر .. العمل .. دائمًا العمل.. سأعود فجرًا. قالت شيئًا عن عشائي الذي ينتظرني وعن شريف الذي نام و.. و..

لم أكن رائق المزاج، فأنهيت المكالمة بسرعة وطلبت منها أن تعنى بنفسها. أشعلت لفافة تبغ .. دقات على الباب .. رائحة عطر فاغم يسبقها قبل مجيئها بربع ساعة.. سوسن..

ينفتح الباب لتدخل سوسن. هي امرأة في الأربعين تستحق كل حرف في كلمة (امرأة). الأنوثة المطلقة كما خلقها الله. تلهث من الجهد ومن التوتر وهذا يزيدها فتنة. متوترة برغم أنني أعرف يقينًا أن أحدًا في الفندق لن يسألها عن وجهتها. هم تعلموا التجاهل والتظاهر بأن كل شيء على  ما يرام ..

تسألني وهي تلثمني هل تأخرت، فأقول لها إنها دومًا متأخرة بالنسبة لشوقي حتى لو جاءت قبلي..

غريب أمر هذا التعلق الذي لا يرتوي أبدًا .. لو كنا متزوجين لكان الملل قد قضى على علاقتنا تمامًا، وعلى قدر علمي لا يمكن لعلاقة أن تستمر بهذا التوهج عامين كاملين، لكني قدرت أن الشوق العاطفي يمتزج هنا بلذة المغامرة والسرقة .. هناك من يدمنون السرقة، ومصابون بمرض الكلبتومانيا، وأنا اعتقد أن ما نحن فيه نوع من هذا المرض..

قالت لي:
-«منصور لن يعود قبل يومين .. لربما كانت الفرصة سانحة كي نلتقي غدًا»

منصور هو زوجها مدير المصرف طبعًا، وأنا لم أره قط لكني كونت عنه صورة عقلية معينة من كلامها. وحش فظ ضخم الجثة لا يحبها لكنه حريص على الحفاظ على أملاكه.. لو كان ثور بيسون لراح يبول حولها ليحدد أن هذه أملاكه..

ابتسمت وقلت لها:
-«للأسف .. زوجتي موجودة في كل وقت، ولديها شكوكها الخاصة .. لن نتمكن من اللقاء أكثر من مرة أسبوعيًا»

-«والنهاية؟»

-«لا نهاية للحب على قدر علمي .. لا يجب أن تكون هناك نهاية. أحيانًا تكون الرحلة أكثر إمتاعًا من الغاية. يومًا ما سيموت زوجك أو أطلق زوجتي، ولربما تزوجنا .. لكن – صدقيني – ستفقد علاقتنا سحر الكلبتومانيا ..»

-«كلبتو ماذا؟»

سحقت السيجارة وصدري يهتز ضحكًا وأطفأت الأباجورة قائلًا:
-«لم نلتقِ خلسة هنا كي ندرس اللغة اللاتينية .. صدقيني»

***************

بعد أسبوع جاء شاكر، ورقد على المقعد المريح وراح يحملق في السقف.. بعد قليل قال:
-«في سن العشرين استولى عليّ هاجس الخنق .. كان مشهد أي شخص يُشنق أو يُخنق بحبل يثير اهتمامي جدًا. فكرة الوجه المحتقن واللسان البارز كانت تجعل خيالي يجمح وقلبي يخفق. احتجت لوقت طويل حتى أكتشف شبكة الإنترنت وأدرك أن هناك أشخاصًا مثلي في العالم.. أنا  لست منحرفًا!»

لم أستطع أن أمنع نفسي من التعليق فقلت:
-«ليس الموضوع أنك لست منحرفًا .. الموضوع هو أن هناك منحرفين كثيرين! في صباي كنت أحب مذاق الشاي الذي يُذاب مكعب زبد فيه، وكانوا يعتبرونني فاسد الذوق .. فيما بعد عرفت أن هناك حشدًا من فاسدي الذوق»

ليس هذا أفضل ما يُقال لمريض نفسي، لكني لم أستطع الصمت..

لم يعلق وواصل السرد وحنجرته تتواثب في عنقه كالعادة:
-«كنت بحاجة ماسة لأن أخنق شخصًا ما .. وتعودت أن أحمل هذا الحبل القصير في جيبي طيلة الوقت وأحلم بما يمكن أن أعمله به..»

وفجأة رأيته يمسك في يده بحبل .. حبل أنيق رقيق واضح أنه من نوع ممتاز. حبل لا يناسب أبدًا هذه الخواطر السقيمة ولا تعليق الغسيل.  هل يضع هذا المجنون الحبل في جيبه طيلة الوقت؟

-«فلتخف هذا الحبل وأكمل قصتك»

دس الشيء في جيبه في عدم اقتناع، وقال والعرق ينبت على جبهته:
-«بدأتْ غرائزي تخرج للعالم عندما كنت أزور ذلك الصديق في بناية في الزمالك .. لاحظت عندما دخلت أنه لا يوجد بواب ولا رجال أمن وأن المدخل خالٍ تمامًا .. دققت باب صديقي فلم أجده، هكذا استقللت المصعد لأنزل .. بعد طابق واحد دخلت فتاة رقيقة للمصعد وهزت رأسها محيية.. كان ذلك العنق النحيل الطويل يناديني .. يناديني بلا رحمة ..والمصعد بطيء جدًا والوقت متأخر،  لم أستغرق وقتًا للتفكير .. هذه فرصة لن تعود. كانت تنظر لكشاف أرقام الطوابق وهي طريقة معروفة لتفادي التقاء العيون في مكان ضيق، وهنا كان الحبل قد خرج .. التف حول عنقها من الخلف ثم رحت أعتصر وأضغط .. أضغط .. كانت تشهق وبرز لسانها كما تمنيت … أعتقد أن الأمر استغرق طويلًا جدًا .. لدرجة أنني ظللت معها في المصعد لفترة طويلة في الطابق السفلي، واضطررت لضغط الزر بيدي اليسرى الحرة ليرتفع للطابق الثالث .. ومن جديد عدت للهبوط .. كان جسدها قد ارتخى تمامًا وكفت عن الركل والتنفس، وكنت أنا ثملًا بغير خمر. يجب أن أستجمع قواي حتى أهرب .. ليس الوقت وقت نشوة! سرعان ما صرت في الشارع، ومشيت مسافة لا بأس بها ثم استوقفت سيارة أجرة .. لن يتذكر أحد أنه رآني هنا، وصاحبي لا يعرف أنني زرته. الجريمة الكاملة هي أن تقتل شخصًا لم تره من قبل ولم ترسم أي خطة لقتله من قبل.  وفيما بعد جمعت كل أخبار هذه الفتاة التي وجدوها مقتولة في المصعد … كان اسمها رشا بالمناسبة..»

-«مر عام ثم بدأت أشعر بالحاجة لتللك اللحظات النورانية من جديد .. كان علي أن أغير الأسلوب. جربت أساليب عديدة، منها استئجار شقة باسم مستعار واستجلاب بائعة أو فتاة ليل .. وجربت خنق الأطفال مرتين..»

كنت أصغي له وأنا أرتجف.. أنا أكره هذه المهنة فعلًا. أكره أن يكشف أحدهم غطاء المرحاض لترى الأشياء على حقيقتها. لكنه برغم كل شيء يشعرك بالتفوق وأنك أفضل.. مهما انحدرت فأنت لن تكون وحشًا مثله.

راح يحكي لي مغامراته في تلذذ حتى تجمعت عصارتي المعدية في أسفل المريء. لكن يظل السؤال المهم هو : كيف تزوج هذا المسخ النفسي؟ ولماذا؟

قلت له:
-«كان من الخطر أن تتزوج ..  أن تعيش معك امرأة وسط هذه الجحيم ………..»

-«التوبة!»

وارتفعت حنجرته وهبطت:
-«تبت .. وعاهدت الله على ألا أخنق شخصًا آخر. لا بد من لحظة يكف فيها المرء عن المجون. لكن تلك الخائنة كانت تخدعني طيلة الوقت .. كانت تلتقي بأحدهم كلما سافرت. لقد رأيت هذا في قدح الحبر وعرفت أن علي أن أعود للخنق!»

واهتز صدره من النشوة وظهرت أسنانه المتآكلة .. وأردف:
-«لا أكف عن تخيل لحظة أن يلتف الحبل حول عنق سوسن ..»

زوجته الخائنة اسمها سوسن .. مصادفة غريبة بعض الشيء …  قدمي تهتز لا إراديًا. اهدأ يا صاحبي .. هو محام واسمه شاكر ..  لا علاقة له بسوسنك زوجة منصور مدير المصرف..

.......

يتبع