قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, August 13, 2016

حنين إلى الاسكنشايزر


في سن الرابعة والخمسين، يسترجع المرء ذكرياته فيشعر بإحباط شديد من كم الفرص الضائعة والجهد السيزيفي الذين مرت بهم هذه الأمة. رأيت ألف بداية جديدة وألف وعد، وفي كل مرة يكتشفون أننا كنا على خطأ فيما سبق، وقد جاءت لحظة البداية الصحيحة أخيرًا، ومنذ عام 1967 وأنا أسمع أنه لابد من التقشف وشد الأحزمة على البطون إلى أن نعبر عنق الزجاجة. عنق زجاجة مستمر منذ زهاء خمسين عامًا!.. هذه ليست زجاجة بل هي قسطرة حالب أو خرطوم حديقة. مع الوقت يشعر أفراد جيلي بأنهم في حالة نوستالجيا (حنين) شديدة وأنهم بحاجة إلى استرجاع ذكريات الماضي والفرار إلى الخلف. السؤال الدائم المزمن هو: هل كان الماضي أجمل أم كنا نحن الأجمل؟ هل كانت رائحة التفاح قوية، أم ان حاسة شمنا كانت أقوى؟ عبرت عن هذا في مقال قديم لي يمكن ان تقرأه هنا.

تتردد نغمة النوستالجيا عالية جدًا هذه الأيام خاصة بالنسبة للجيل الذي كان طفلاً في السبعينيات أو الثمانينيات، وقد عبر إعلان الاسكنشايزر الرائع الذي تراه هنا عن هذه الظاهرة بذكاء. كل شيء في الماضي يبدو رائعًا بالنسبة لجيل الكبار، وعلى الأرجح هم كونوا ذاكرة زائفة لأشياء لا وجود لها. وفي النهاية يحسبون أن كل شيء في زمنهم كان رائعًا، بينما هذا الجيل مسكين لم ير شيئًا ولم يعرف شيئًا ولم يأكل شيئًا.

يمكنك أن تجد أن برنامج صاحبة السعادة الذي تقدمه الفنانة الساحرة إسعاد يونس يلعب بشدة على نغمة الحنين هذه. شاهدها هنا وهي تصغي بانتشاء لأغاني إعلانات الماضي. كمية سحر لا يمكن وصفها، لكن هل تعود حقًا لأن الإعلانات كانت رائعة عبقرية، أم لأنها تذكرنا بأيام كنا فيها أكثر صفاء وخلو بال؟.. كنا أجمل قبل أن يلوثنا غبار الشهوات وعادم الإحباطات ووحل الفساد المتراكم.

تتعالى النغمة اكثر فأكثر مع صفحة (ذكريات من عمر فات) التي تجدها هنا، وأنا مدمن لهذه الصفحة وأزورها بكثرة، والصور المنشورة تحت هذا الكلام لا تحتاج لبيان المصدر لأنها تحمل علامة الموقع المائية. لكن الموقع برغم روعته يقع في غلطة (كل ما قد كان هو شيء رائع). رفض الحاضر تمامًا وتقديس الماضي ليسا صحيحين تمامًا. تذكر الماضي بأمانة لو كنت أكبر من 45 عامًا.. تذكر فترة الإسفاف والأفلام الخليعة العارية بعد هزيمة 1967 وأغنية (الطشت قال لي). شبكات دعارة الفنانات والشقق المفروشة.. عندما كانت الفتاة تبيع نفسها من أجل بلوزة مشجرة وزجاجة عطر من شارع الشواربي. صعوبة المواصلات واستحالة الاتصالات. طوابير الخبز. أنا شخصيا كطفل كنت أمضي ثلاث ساعات يوميًا في طابور الخبز حتى كرهت منظر الخبز ورائحته.. انقطاع الكهرباء بكثافة.. انقطاع المياه معظم اليوم في زمن كان بيع مضخات الرفع ممنوعًا فيه قانونًا.. المحظوظ الذي يعود لداره بدجاجة مجمدة من الجمعية بعد دفع المعلوم للدلّالة.. استحالة العثور على صابون. سنوات الانفتاح والمليونيرات الذين جعلونا نأكل دجاجًا متعفنًا خصصه الغرب كعلف للمواشي، وحوادث تسمم التلاميذ بجبن فاسد. أفلام الثمانينيات المبتذلة (المقاولات) بألوانها المزعجة الباهتة، التي كان الناقد سامي السلاموني يسميها (الهابوش). لم تكن أيامًا رديئة لكنا كذلك لن نخدع أنفسنا فنتخيل أن الماضي كان كونًا أثيريًا تحلق فيه الملائكة. الحياة كانت سيئة وقتها وما زالت سيئة، وستظل كذلك على الأرجح.




الانترنت وموقع يوتيوب مفعمان بأفلام تكرر هذه النغمة.

مؤخرًا ظهرت قناة جميلة مخصصة فقط لنقل روائع الكنوز المدخرة في خزائن ماسبيرو. هذه هي قناة (ماسبيرو زمان) التي أعترف بأنني كففت عن مشاهدة أي شيء سواها منذ أخبرني بها صديق. تحمل القناة كمية هائلة من النوستالجيا بالتأكيد. ثمة برامج أذكر بالضبط أين كان أبي يجلس أثناء عرضها، وأين كانت أمي، وماذا كنا نأكل وقتها وهل كان الطقس باردًا أم حارًا.. سفينة زمن هي.. تعيدك إلى الوراء لتعيش من جديد لحظاتك وأنت في سن التاسعة مثلاً. لم يسرقوا كل تراث ماسبيرو إذن. ما زال لدينا مسلسل أو اثنان. أما وقد كبرت فإن بوسعي أن ألقي نظرة ثانية إلى هذه البرامج التي كانت تمثل كل عالمنا وقتها، عندما تخرج من صندوق الأحلام السحري.

بالنسبة للكوميديا، يمكن القول إنه كانت هناك حالة عامة من البلاهة والتظرف. كان الناس يضحكون على أي شيء وكل شيء. كنت أؤمن دائمًا أن أبا لمعة والخواجة بيجو والدكتور شديد شديدو السخف، برغم أنهم كانوا نجوم ذلك الزمن. شاهد هذا الاسكتش ثقيل الظل هنا وتصور أنه كان يقتل الناس ضحكًا وقتها. شاهد هذا المشهد من فوازير ثلاثي أضواء المسرح.. هل هناك نص مكتوب حقًا أم أن الممثلين يقومون بالتأليف الفوري أثناء الأداء؟ كان الناس يموتون ضحكًا على حلقات عكاشة عماشة التي ترى لقطة منها هنا، وكيف كان محمد رضا ينطق عبارات على غرار (رب أنا لم أسوأت إلى هذا الوليه) ..

لكن الناس دأبت على ترديد قوالب لفظية: فن راق بلا إسفاف.. سقاها الله من أيام. إلخ..

بالنسبة للدراما، يمكن أن تجد أعمالاً غاية في الرقي وتعتمد على أعمال أدبية كبيرة (مثل الساقية والرحيل ولقيطة .. إلخ). بالطبع مع فارق التقنية الرهيب، وميل الممثلين إلى الأداء المسرحي المبالغ فيه. لاحظ أن حلقة المسلسل كانت تمثل كلها مرة واحدة بلا قطع، كأنها مسرحية فعلاً من ثم مسرحة أداء الممثلين، وفي لحظات كثيرة كان شارب الممثل المستعار يسقط، فيقضي الوقت في محاولات للصقه دون أن تلاحظه الكاميرا، لأن لفظة مونتاج لم تكن موجودة. دعك من إضاءة الاستوديو الحارقة في مسلسلات الفيديو، حتى لتشعر بأن جوانب الصورة محترقة. كان هناك مسلسل رائع اسمه (وجه الحب الآخر). حلقات منفصلة كتبها الكاتب المسرحي الكبير ميخائيل رومان، وكل حلقة تحكي قصة حب غريبة. أرجو ألا يكون هذا المسلسل الرائع قد انقرض. أتمنى كذلك أن تكون حلقات القاهرة والناس ما زالت موجودة.

بالنسبة للبرامج، لدينا ثروة مذهلة من اللقاءات مع شخصيات ثقافية هي أقرب للأهرام في تاريخ مصر. أن ترى مصطفى محمود أوكمال الملاخ أوأحمد رجب أوصلاح جاهين أو يوسف إدريس في برامج حوارية.. هنا يمكن أن أؤكد لك أن الماضي كان أفضل فعلاً. تصور أن يذاع لقاء مع العقاد شخصيًا قامت به الإعلامية – بحق وحقيق – أماني ناشد. شاهده هنا.

تصور أن يجتمع أنيس منصور وأمين يوسف غراب ونجيب محفوظ وكامل زهيري وثروت أباظة وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي.. كل هؤلاء يجتمعون – كتلاميذ تقتلهم الرهبة – ليناقشوا عميد الأدب العربي طه حسين، وتدير الحوار بتمكن وثقة ليلى رستم!.. لو سقطت قنبلة فوق ذلك الاجتماع لأزيل الوجه الناعم للثقافة المصرية كلها!... هذا الحوار موجود هنا. وهو من النماذج التي يعترف معها المرء في تواضع بأن الماضي كان أفضل. تحتاج مصر لمئة عام حتى تجتمع عقول كهذه في مكان واحد.

من ضمن ما تلاحظه بقوة في هذه القناة جو التفاؤل والاعتزاز بالذات المسيطرين علينا في ذلك الوقت، ونحن نشعر بأننا سادة الأمم وأننا نملك إرادتنا، ونتحرك نحو عصر الفضاء بقوة. يأسف المرء عندما يكتشف أن كل هذا كان بلا أساس، وبلا جدوى. كل عصر كان يمحو تجربة سلفه، والأسوأ هو أن جيش المنافقين مستعد في كل لحظة لامتداح الحاكم الحالي ولعن من سبقه. سوف تلاحظ هذا بوضوح مع برامج تلك القناة؛ منذ كانت الموضة هي الاشتراكية وتضامن الشعوب والوحدة العربية، ثم تعالت نغمة الرأسمالية وأن مصر أولاً وقبل كل فرد، ثم الدعوة للسلام مع إسرائيل.. وفي كل مرة نعلن أن هذه هي البداية الصحيحة.

الماضي لم يكن أسوأ ولم يكن أفضل.. فقط كانت الفرص سانحة والثمار بعد على أشجارها. لكن المرء يتحسر بشدة على خمسين سنة ضاعت دون أن نتحرك خطوة للأمام.. بل ظللنا نحفر الأرض بحوافرنا في عناد، ثم تراجعنا. العيب ليس في الترزي وحده ولكن في القماش نفسه، كما قال الراحل الكبير جلال عامر.