قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, July 27, 2016

إنترنت نباتي


نبتعد عن المواضيع الكئيبة هذه المرة، ونتحدث عن موضوع مثير. الطبيعة أكثر جرأة وجموحًا من خيال الفنان، وبرغم أن أوسكار وايلد قال ساخرًا إن الطبيعة تقلد الفنان، فإن الطبيعة أوسع خيالاً بما لا يُقاس.

فيلم أفاتار مبهر جدًا خصوصًا بالأبعاد الثلاثية، ويمكنك مشاهدة التريلر الخاص به هنا، وإن كنت غير متحمس له جدًا من ناحية القصة، لأنها بدت لي نسخة فضائية من (يرقص مع الذئاب). من أجمل اجزاء فيلم (أفاتار) تلك الأجزاء المتعلقة بشجرة الأرواح..


شجرة الأرواح في فيلم أفاتار تمثل التراث الديني المقدس لذلك الشعب الفضائي (النافي) . وهو التراث الذي يحاول رجال المارينز الفضائيين تدميره. هي شجرة صفصاف عملاقة على أرض بندورا، حيث تعيش قبيلة أوماتيكايا. تستطيع هذه الشجرة أن تتصل بنهايات أعصاب البشر عن طريقة توصيل ضفائرهم بها كما يتم توصيل القابس. وعن طريق الشجرة يلتحم كل شعب النافي ككيان واحد.


هذه لقطات يصعب نسيانها في الفيلم، خاصة عندما أصيبت العالمة الأمريكية (سيجورني ويفر) بجروح مميتة فجلبها البطل للشجرة، حيث حاول الأوماتيكايا أن ينقلوا عقلها إلى أفاتار. لكن المحاولة فشلت. استغل المخرج جيمس كاميرون طقوس صلاة (الكاك) في جزيرة بالي الأندونيسية ليعطينا هذا المشهد المهيب الذي تراه هنا.

ننتقل لعالم الواقع، حيث يحكي مقال نشرته الـ BBC منذ عامين عن اكتشاف عجيب: النباتات لها شبكة إنترنت خاصة بها. شبكة الإنترنت تسرع التفاعل بين أشخاص متباعدين على نطاق واسع، وهذا هو الوضع فعلاً فيما أطلق عليه العلماء ساخرين wood wide web. نفس نطق world wide web لو أن الناطق كان ألدغ. ومعناها شبكة الغابات العنكبوتية الواسعة.

النباتات تستعمل شبكة من الفطريات . كل فطر له جسد مكون من خيوط هي التي يسمونها mycelium. القاموس يترجمها (أفطورة) لكن أشعر أنها لفظة مشينة!.. هذه الخيوط تشكل شبكة معقدة تحت التربة تربط بين النباتات وبعضها.

النباتات لا تنمو فقط كما نتصور، لكنها تتبادل المعلومات والغذاء مع جيرانها. هناك مجتمع كامل من الرغي والنميمة، كما أن النباتات قادرة على التخلص من الأفراد المريضة عن طريق إرسال مواد كيماوية سامة.

من المعروف لكل طالب ثانوي (من طلبة زمان) أن النباتات تعيش في علاقة منفعة مع الفطريات، وهذه العلاقة اسمها (الميكوريزا)، وقد وصفها عالم نبات ألماني من القرن التاسع عشر اسمه ألبيرت برنارد فرانك حيث يتخذ الفطر جذور النبات كمأوى.



هذه علاقة منفعة بسيطة. النبات يقدم الطعام للفطريات على شكل كربوهيدرات، والفطريات تساعد النبات في امتصاص الماء وتقدم له الفوسفور والنتروجين وتقوي نشاطه المناعي. فالنبات يفرز كيماويات للمقاومة طيلة الوقت، وتسمى هذه العملية Priming.

بعد هذا عرف العلماء أن الفطريات تشكل شبكة إنترنت طبيعية تربط النباتات ببعضها. في العام 1997 اكتشفت عالمة نبات تدعى سوزان سيمارد أن نوعين من الأشجار يتبادلان ذرات الكربون عبر شبكة خيوط الفطريات. فيما بعد تبين تبادل الفوسفور والنتروجين.

عرفت العالمة أن النباتات الكبيرة تساعد النباتات الصغيرة عن طريق الفطريات، وكذلك تعاون النباتات التي تمر بظروف قاسية. هذا تكافل طبيعي بدون إعلانات تلفزيون ولا أرقام هاتف. قالت العالمة إن الأمر ليس في مجمله صراع بقاء للأقوى على طريقة داروين.. بل هو مجتمع يغمره التعاون والتراحم ومساندة الضعيف. اكتشف عالم صيني أن النباتات عندما تتعرض لعدوى مرضية فإنها ترسل تحذيرًا لرفيقاتها.

زرع الباحث الصيني بعض الطماطم حتى كونت شبكة اتصالات فطرية من الميكوريزا ، ثم أصاب بعض النباتات بفطر مؤذ يسبب آفة زراعية. وقام بعزل النباتات بالبلاستيك لمنع انتقال أي شيء بالهواء. بعد أيام حاول أن ينقل عدوى الفطر المؤذي لنباتات أخرى، لكنها صارت أكثر مقاومة للعدوى واستعدادًا لها. لقد وصلها الإنذار عبر خيوط الفطر وتأهبت له!!.. بل إنها تلقت نوعًا من اللقاح!

هذا يصيب المرء بالصداع. أي أن النباتات أكثر تحضرًا وحكمة وتنسيقًا من البشر. سمعت عن مرضى إيدز يخفون مرضهم ويمارسون علاقات جنسية مع أفراد سليمين، فقط للتلذذ بفكرة أن يصير الجميع مثلهم، أما هنا فالنبات المريض يفضل أن ينذر رفاقه الأصحاء.

وصف العلماء سلوكًا مماثلاً لدى البسلة التي تهاجمها حشرة المن. إنها تنذر النباتات الأخرى.


لكن ليست شبكة النباتات على هذه الدرجة العالية من الرقي طيلة الوقت، وإلا لكنا نصف المدينة الفاضلة. هناك نباتات وقحة قليلة الأدب وهناك هاكرز ومتسللون في عالم النباتات كذلك. بعض النباتات تسرق الكلوروفيل: صبغة الحياة الخضراء التي تعادل هيموجلوبين دمنا. درسنا في المدرسة الثانوية النباتات الشاحبة مصاصة الدماء التي تتطفل على النباتات السليمة، ومنظرها مرعب فعلاً.. ما زلت أرتجف كلما تذكرت منظر حامول البرسيم الذي عرضه علينا مدرس الأحياء (أيام مدرسي زمان العظماء). هناك نبات جميل استثنائي هو الأوركيد الشبح الذي يسرق كلوروفيل النباتات المجاورة عن طريق خيوط الفطر. الصورة تحت هذا الكلام لزهرة رائعة الجمال هي الأوركيد الشبح، وهي فاتنة مميتة ككل مصاصات الدماء في السينما.


الأمر أعقد أحيانًا. بعض النباتات تدس السم لبعضها كي تستأثر بالغذاء والماء. نبات شجرة الكينا يفرز مواد تمنع النباتات الأخرى من التغذية. تبين أن النباتات قادرة على نقل تلك السموم عبر شبكة الإنترنت هذه. ليس هذا كلامًا مرسلاً على طريقة المنتديات إياها، بل عبر مجموعة من التجارب الدقيقة المصممة جيدًا التي قام بها علماء أمريكان وألمان. المقال يشرح كيف صممت هذه التجارب لكن لا مجال لشرحها هنا.


شجرة الجوز الأسود الأمريكية تمنع نمو نباتات كثيرة حولها عن طريق مواد كيميائية اسمها الجوجالون، وقد تبين أنها تفرز هذه المادة وتوزعها عن طريق شبكة الفطريات، والغريب أن النبات يتحكم في نوعية الفطريات التي تناسبه في عمله. أي انه يختار بنفسه شركة الإنترنت الملائمة له!

هناك أبحاث غير مكتملة تقول إن النباتات تنذر بعضها من الحيوانات، لكن لا يمكن قول ذلك في هذه المرحلة المبكرة طبعًا.


هكذا ترى أن فيلم أفاتار لم يكن بعيدًا عن الحقيقة، بل على الأرجح استلهم هذه المعلومات بما أن الأبحاث قديمة تعود للستينيات. هذه بذرة ممتازة صالحة لقصص الرعب وقصص الخيال العلمي معًا. أن تكون النباتات قادرة على التواصل والتفاهم بينما نحن لا نعرف عنها أي شيء، ونراها مسالمة ساكنة. وفي الوقت نفسه تعطيك فكرة عن عظمة خالق الكون التي لا يمكن استيعابها بعقل بشري. لا أجد عبارة أفضل من العبارة التقليدية الشائعة في المنتديات: لا تخرج قبل أن تقول سبحان الله !