قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, July 14, 2016

تشرفنـــا



ليس بوسعك أن تقول عن محمود البدري إنه من المشاهير. معظم الشباب يعرفونه ككاتب قصص مسلية، لكن أي شخص تجاوز الخامسة والثلاثين لم يسمع عنه على الإطلاق. هناك قاعدة غير مكتوبة تعلمها البدري: إذا تواجد في مكان لا يتمنى أن يراه فيه أحد، فإنه يكتشف أن شهرته ساحقة.. ربما تفوق شهرة نجوم السينما أو لاعبي الكرة. لم يكن يرتاد البارات أو بيوت الهوى وإلا لكانت فضيحة، لكن يكفي أن يجلس على مقهى شعبي بائس، أو يأكل على عربة فول، أو يقف في طابور الخبز كي يكتشف أن الكل يعرفونه، ويرحبون به ويلتقطون الصور معه. ذات مرة على الطريق الزراعي قال لسائق سيارته إنه يشتهي كوبًا من الشاي، ولم تكن هناك مقاه قريبة. انتقى السائق غرزة مشبوهة بين الأشجار بلا مقعد سليم واحد، بها كلب أجرب وأكواب مشروخة ومجموعة من سائقي الشاحنات يدخنون الجوزة، ويرمقونهما في شك. سنشرب الشاي بسرعة ونواصل رحلتنا. هنا فوجئ بسيارة فاخرة تتوقف إلى جانب الطريق، وينزل منها أحد قرائه ليصافحه في حماسة. لقد تعرف عليه وهو منطلق بسيارته مسرعًا، وعرفه وهو يجلس بين الأشجار في غرزة على جانب الطريق. وبالطبع لابد من صورة (سيلفي). هناك قاعدة أخرى هي أن أحدًا لا يأخذ صور (سيلفي) معه إلا وذقنه – ذقن البدري – نامية.
   
الجزء الثاني من القاعدة؛ هو أنه عندما يذهب للمصرف أو إدارة المرور أو المحكمة أو الجمارك أو التأمين الصحي أو .. أو ..  حيث يتمنى أن يجد واحدًا يعرفه، فإنه يصير مجهولاً تمامًا. يصير نكرة..

أحيانًا يصير الأمر عبثيًا عندما يحاول إثبات أنه هو فعلاً. إذا كان الطرف الآخر يعرف كتابات البدري جيدًا.

كانت هناك صفحة (بلوج) أنشأها أحد القراء له، وقد طالعها البدري فانبهر وخجل من كل هذا الجهد والإخلاص. كتب تعليقًا باسمه يشكر صاحب الصفحة ويتمنى له التوفيق. في برود ردّ صاحب الصفحة أنه لا يصدق أن محمود البدري هو من علّق، ولا داعي لهذا المزاح السخيف يا أستاذ. "هذا أنا .. والله العظيم أنا". لكن صاحب الصفحة أكد أنه يشك في الموضوع برمته. وانبرى أحد الأذكياء يؤكد أن لغة التعليق ركيكة، وليس هذا أسلوب البدري على الإطلاق، بل هو على الأرجح سائق توك توك أو صبي لم يحصل على الشهادة الابتدائية بعد. راح يقسم أنه هو.. لا أذكر كيف تم حل هذا الإشكال، لكن صاحب البلوج اقتنع أخيرًا بعد لأي، وصارا صديقين.

كانت هناك قصة ممتعة في مجلة سوبرمان، عن البطل الجبار إذ يحاول إقناع رجل كفيف بأنه هو سوبرمان، والأول يصر على أن هذا نصاب أو لص يحاول خداعه. جعله يطلق عليه الرصاص، فأصر الكفيف على أن النصاب يلبس بدلة واقية. طار به في السماء، فقال الكفيف إن سوبرمان جعله يقف أمام مروحة عملاقة. قام بتحويل قطعة فحم لماس وجعله يتحسسها فأصر الكفيف على أن النصاب بدل القطعة في يده. لم يصدق إلا عندما ضرب سوبرمان صخرتين بقوة فحدث وميض ساطع، واستطاع الكفيف أن يرى النور لحظيًا لأول مرة منذ خمسين عامًا!.

يتكرر هذا الموقف مرارًا .. أن تحاول إثبات أنك أنت وتفشل..

محمود البدري يمقت الشبكات الاجتماعية جدًا، ويراها وسيلة ممتازة لتضييع الوقت، فأنت تتورط في مئات العلاقات التي يصعب التحرر منها من دون مشاكل أو فظاظة. ثم إنه لا يعرف ما الاجتماعي فيها بالضبط، إذا كان يدخلها فيجد في معظم الأحوال ذئابًا مسعورة تشتم بعضها بالأب والأم. ثمة شيء يجعل الناس بذيئين جدًا في العالم الافتراضي برغم أنك تعرف كل شيء عن أسمائهم ومهنهم. برغم هذا هناك بعض الصفحات المهمة أو المفيدة، ولا يمكنك أن تطالعها من دون أن تنضم للفيسبوك، لذا اتخذ لنفسه هوية مستعارة، وراح يدخل تلك الشبكات من حين لآخر ويعلق، عالمًا أن بوسعه التلاشي في أي لحظة متى أراد.

من حين لآخر كان يكشف عن شخصيته لصاحب أو صاحبة الصفحة، ويطلب أن يظل هذا سرهما المشترك، فكانت ردود الفعل تختلف...

ذات مرة أعجب جدًا بصفحة لفتاة ذات ميول ثورية، وتجمع بين الشاعرية والتمرد والذكاء وروح الدعابة في خليط فريد، كما أنها كانت تنتقي صورًا ذكية متميزة، وكانت تنشر مقاطع عدة من قصصه ومقالاته مما أرضى غروره. بعد فترة من إعطاء (اللايك) لمنشوراتها، طلب صداقتها. قبلت صداقته وهي مرتابة جدًا ومعها حق. صفحته فارغة تمامًا توحي بمتسلل أو متحرش أو لجنة إلكترونية ولا شك. قال لها في أول محادثة خاصة إنه محمود البدري شخصيًا وإنه يمقت أن يظل صديقها باسم مستعار. هنا كان رد فعلها عدائيًا جدًا .. لم تصدق حرفًا ..  سيل من الشتائم ثم: "حاعمل لك بلوك يا بابا عشان أنا مش فاضية للعك ده !". وطردته ! .. والطريف أنها ما زالت تنشر مقاطع من كتاباته!
  
على الجانب الآخر هناك من يصدق على الفور ويمنح ثقته. 

كان هناك صديق مثقف راق يملك صفحة على الفيسبوك، والصفحة صارت معرضًا ممتعًا ينم عن ذوقه الرفيع في الموسيقا والفن التشكيلي، وآرائه السياسية الصائبة دائمًا. كالعادة – بالاسم المستعار –  طلب البدري صداقته فنالها. بعد فترة قام بالكشف عن شخصيته .. أنا محمود البدري .. أكره أن أخفي شخصيتي أكثر من ذلك ..

كانت استجابة الصديق طريفة جدًا. هو لا يعرف محمود البدري تقريبًا .. لكنه وجد من واجبه أن ينبهر. لقد ألقى البدري قنبلته لكنها لم تنفجر على الإطلاق ..  قال الصديق في تهذيب ما معناه:
ـ"مفاجأة جميلة جدًا ..  أنا فعلاً فخور بأن أراسل ... محمود الدسوقي"
ـ"البدري .. محمود البدري"
ـ"البدري .. كنت طيلة حياتي أتمنى أن أراسل الشاعر الكبير محمود البدري"
ـ"أنا لست شاعرًا .. أنا قصصي"
ـ"لا يهم .. كلهم فنانون .. هاها !"

في فيلم (حديقة العصر الجوراسي) يلتقي أحد الجواسيس في مقهى بأمريكا الجنوبية مع مهندس كمبيوتر ممن يعملون في الحديقة. يقول الجاسوس همسًا للمهندس: "إياك أن تذكر اسمي .. لا يجب أن يعرف أحد أنني هنا". ينهض المهندس ليصيح بأعلى صوته في الجالسين: "يا شباب .. هل تعرفون؟ جاك والترز هنا!.. جاك والترز هنا!". ينظرون له في ملل ويواصلون الكلام. يجلس ويقول للجاسوس ضاحكًا: "أرأيت ؟ لا احد يهتم! خذ راحتك!".

ذات مرة دخل أحد الأشخاص مكتبي دون إذن، فلما رأى دهشتي قال في فخر وتعال: "أنا أدعى عبد الرحمن الزناتي!".  وانتظر سماع شهقات الانبهار لكن لم أكن قد سمعت عنه قط من قبل، وقد راق لي الموقف فأبديت الحماسة، وطلبت منه أن يجلس وأصغيت لطلباته باهتمام. فيما بعد عرفت أنه مراسل مكتب طنطا الخاص بجريدة كبرى. 

المهم أن البدري تخلى منذ ذلك الحين عن دخول الفيسبوك بأي اسم أو صفة، وإن ظل يجلس على المقاهي الرخيصة ويأكل على عربات الفول، وهو يتلفت حوله خشية أن يعرفه أحد. ويعرف أن المكان الأمثل الذي لا يعرفه فيه أحد أبدًا هو المكان الذي يحتاج فيه لأي واحد يعرفه