قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, October 27, 2010

تاريخ للكبار فقط

بص و طل - 26 أكتوبر 2010


إعجابي بالدكتور يوسف زيدان لا يخفى على أحد.. من العسير في هذا الزمن أن تجد من يدقّق بهذا الشكل، ويلاحق كل معلومة في خبايا التاريخ، مبرهنًا في كل مرة على أنه خبير مخطوطات من الطراز الأول.. إنه عملاق بكل تأكيد، ولا أعتقد أن كثيرين يرغبون في تفنيد هذه النقطة.

في عدد 22 سبتمبر من جريدة "المصري اليوم" يواصل سلسلته (أوهام المصريين) التي انتوى أن تكون سباعية من الحلقات، ويحمل المقال اسم (الناصر أحمد مظهر). مقال بديع كالعادة وينطق بموسوعية الرجل، ولكن المشكلة هي أنه يتناول تاريخ صلاح الدين الأيوبي كما ظهر في الفيلم الشهير الذي قام ببطولته أحمد مظهر، وهي نقطة نختلف معها منذ البداية.. من يأخذ التاريخ من الأفلام السينمائية فتلك مشكلته، ويكفي أن الدقة التاريخية معدومة تمامًا في أفلام ضخمة مثل (القلب الشجاع) و(طروادة)، كما أن كل ما ورد في فيلم (الشيماء) تقريبًا من خيال المؤلف.



ينتهز د. يوسف زيدان فرصة المقال ليسوّي حسابه مع نظام عبد الناصر، أولاً باعتبار الفيلم يدور عن عبد الناصر بشكل مستتر (وهذا رأيه وحقه طبعًا)، وفي الوقت نفسه يزيل عن أذهان العامة بعض الخرافات العالقة بشخصية صلاح الدين الأيوبي، وهو يبدأ الكلام قائلاً بقسوة: "والتجارة في الأحلام من أربح التجارات (وأكثرها خِسَّةً)" وهذه العبارة تلصق تهمة الخسة بحشد لا بأس به من فنانينا الذين تعاونوا على تقديم هذا الفيلم؛ ومنهم نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوى ويوسف شاهين، ثم يقول:

1- صلاح الدين الأيوبي، كان قائداً خائناً للسلطان نور الدين الذي أرسله على رأس الجيش من دمشق إلى مصر؛ لتأمين حدودها ضدّ هجمات الصليبيين، فترك الأمر ومهَّد لنفسه السلطة.

2- العجيب الدالّ على شخصية صلاح الدين أنه كان في الوقت ذاته قائداً من قوَّاد السلطان نور الدين (السُّنىِّ)، ووزيراً للحاكم الفاطمي لمصر (الشيعي)، مع أن الدولتين كانت بينهما خلافات لا تقلُّ عمقاً عما كان بين المسلمين أصحاب الأرض.

3- بعد مناورات كثيرة ومداورات، اضطر صلاح الدين الأيوبي إلى اقتحام القدس، ولم يفلح في انتزاعها من قبضة الصليبيين إلا صُلحاً.. ثم أعادها الأيوبيون ثانية إلى الصليبيين كهدية، سنة ٦٢٨ هجرية!

كل هذا غير جديد وقد قرأته كثيرًا، وأذكر أن جريدة الدستور (الإصدار الأول) خصصت عددًا خاصًا لهذا الموضوع، ومنه عرفت أن لفظة "استكرده" العامية معناها (عامله معاملة الأكراد للمصريين) أي "خدعه"، وصلاح الدين كردي طبعًا. أذكر أنني أرسلت وقتها خطابًا شبيهًا بمقالي الحالي للدستور، لكن أحدًا لم يردّ عليه، إن تفنيد هذه النقاط موجود ومتاح لمن أراد، ود. "يوسف" نفسه أول من حارب فكرة الزعيم الملهم الخالي من أية عيوب، وقد كان صلاح الدين جزءًا من سيناريو انهيار الدولة العباسية، لكنه في النهاية الرجل الذي استعاد القدس.

لا توجد شخصيات بيضاء أو سوداء في التاريخ، بل هناك الرمادي بدرجاته، وفيلم صلاح الدين لم يقدّم سوى البياض الساطع الشبيه بأثواب الحجاج، بينما مقال د. يوسف زيدان لم يقدم سوى السواد.. لا مشكلة عندي كذلك، فالرجل باحث مدقّق ولديه أسبابه بالتأكيد، ولكن لماذا يجب أن يقرأ غير المتخصصين هذا الكلام؟ وماذا يمكن أن يستخلصه رجل الشارع منه؟ سألخصه لك:

كل انتصاراتك وهمية يا صاحبي.. تاريخك ملفّق.. أنت من "صنف واطي" غير جدير بشيء، وفي تكوينك الجيني خلل أصيل لا شفاء منه.. كفّ عن أغنية "من للقدس بعدك يا صلاح الدين؟"؛ لأنها لا أساس لها من الصحة، وحتى اسما "القدس" و"أورشليم" لم يكونا موجودين في ذلك الوقت.. لقد أخذنا منك الأهرام وأعاجيب الفراعنة، فقد صنعها رجال الفضاء أو قوم عاد، وحرب أكتوبر هي هزيمة مروّعة، وتأميم القناة خطأ فادح، واليوم نثبت لك أنه لا انتصارات فيما تعتقد أنه تاريخك الإسلامي المجيد..

جَلد ذات لا ينتهي.. قد يبدو لذيذًا شهيًا للمصابين بالماسوشية، لكنه يترك الباقين بلا أمل..

التاريخ علم يخضع -كأي علم- للجدل والتغيير والانقلابات، وأنا أؤمن أنه لا بد من أن يتمّ طرح كل شيء في قاعات الدرس و المحاضرات، لكني أؤمن كذلك بأنه لا ينبغي طرح كل شيء على صفحات الجرائد. ما نفعله نحن بهذه الدقة الأكاديمية الرهيبة هو هدم آخر حجر نقف عليه.. نحرق بقايا الطوف الذي يعبر بنا عباب المحيط..

لقد قرأت في جريدة الدستور (الإصدار الأول) مقالاً طويلاً يثبت أن سعد زغلول كان مصابًا بداء القمار، وقرأت في مجلة "الهلال" في الثمانينيات أن أحمد عرابي كان على درجة من الغباء والوهن العقلي، مما أدى لفشل ثورته، وقرأت في الدستور الجديد عن شاعر الرسول حسان بن ثابت، وكيف أصابه الرعب أثناء الحرب فتوارى، وراحت النساء يدافعن عنه!

السؤال هنا: ما جدوى معرفة هذه المعلومات؟

لسيد القمني أعداء كثيرون، لكني قرأت للرجل كثيرًا فوجدت أن ما يقوم به بسيط جدًا.. يبحث في بطون كتب التراث عن قصص لا يعرفها الجميع، ويقدّم كل شيء كما هو دون انتقاء، ودون أن يبدّل شيئًا.. يقدّمه لرجل الشارع الذي سوف يقرأ المقال، ويصدم بقصص لم يسمعها من قبل ولا يبتلعها (قصة خالد بن الوليد في حروب الردّة، وميراث فاطمة ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال)، ويغضب أو يصدم أو يشكّ أو يتظاهر بأنه لم يقرأ شيئًا.. ربما تحمرّ عينه ويتّهم القمني بأنه عدو الإسلام، وربما يتساءل في حيرة "لماذا لم يخبرونا بكل هذه التفاصيل في المدرسة؟!".. رجل الشارع لن يبحث أبدًا عن رأي مختلف أو يحاول تفنيد المكتوب، وهذه هي نقطة الاختلاف عن الأكاديمي الذي يعرف بالضبط ثقل -أو خفة- المعلومة التي يطالعها.. مكان كلام القمني هو قاعات التدريس بالجامعة والرسائل الجامعية وأقسام الأديان المقارنة... إلخ. لكن ليس بين العامة.. وكذلك مقالات د. يوسف زيدان -كهذا المقال- مكانها قاعات التدريس بقسم التاريخ في كلية الآداب، أو على الأقل النشر في طبعات مخصّصة للأكاديميين.

هل أقصد أنه لا بد من وجود رقابة على التاريخ الذي يقدّم للناس؟ أنت قد فهمتني فعلاً.

هناك مقولات أؤمن أن قيمتها لا تتجاوز اهتزازات طبلة الأذن لسماعها، ومنها أن الرقابة شريرة على طول الخط.. الرقابة الرشيدة الواعية الأمينة قد تفيد المجتمع فعلاً، مهما كلمتني عن حرية العقل فأنا لن أترك كتبي الطبية بما فيها من صور ومعلومات صريحة ليطالعها ابني.. سوف أختار له كتبًا تقدّم معلومة صحيحة مهذّبة نوعًا، ولن أكذب عليه أبدًا.. قرأت كثيرًا عن "الآباء" المؤسسين للولايات المتحدة، وخيّل لي أنهم ملائكة من فرط حرص المؤرّخين الأمريكان على عدم إلصاق أية نقيصة بهم.. فقط عندما تتوغّل في التاريخ أكثر تعرف خلافات إبراهام لنكولن مع زوجته السوقية، وفضائح بنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون وأولادهما غير الشرعيين..

"فرانكلين" رتّب عملية اعتقال ابنه؛ لأنه مخلص لبريطانيا، و"واشنطن" كان يتحاشى أمه؛ لأنها كانت تُهينه أمام الناس عمدًا.. هذه الأشياء تعرفها بصعوبة بالغة، مع تأكيد واضح على أن هذه القصص مختلقة على الأرجح..

إذن لماذا نصرّ نحن على هذه الدقة الأكاديمية العتيدة؟

د. "يوسف".. لو كان لي أن أبدي رأيًا فيمن هو في مقامك وعلمك، فلتسمح لي بأن أقول إنك اخترت المكان غير المناسب لطرح هذا الموضوع، واخترت المثال غير المناسب (فيلم سينمائي)، والأهم أنك اخترت الوقت غير المناسب بتاتًا، في هذه الأيام السوداء، وثقة المصري مهتزّة بنفسه وعروبته، فلا يقف إلا على خيط اسمه (تاريخه المجيد)، فلو برهنت له بشكل ما على أن تاريخنا ليس مجيدًا لهذا الحد، فأنت لا تساعده على أن يفيق.. أنت تمنحه ضربة الرحمة coup de grace التي ستدفعه إلى الهاوية السحيقة التي تنتظره في شغف..